كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَهَذَا: اعْتِقَادُهُ هَذَا خَطَأٌ يَجِبُ عَلَيْهِ النُّزُوعُ عَنْهُ وَأَنْ يَسْأَلَ أَوْ يَبْحَثَ لِيَظْهَرَ لَهُ الصَّوَابُ، وَهَذَا بِإِصْرَارِهِ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَالْخَطَأِ عَاصٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الدَّيْنِ الَّذِي لَا يُعْذَرُ بِالْخَطَأِ فِيهِ، وَالْفَقِيهُ إذَا اعْتَقَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ الْحَقِّ لِشُبْهَةٍ أَوْ تَقْلِيدٍ لِجَاهِلٍ عَاصٍ أَيْضًا كَالْعَامِّيِّ بَلْ هُوَ عَامِّيٌّ فِيهَا، وَمَحِلُّ الْحُكْمِ فِيهَا بِالْعِصْيَانِ فَقَطْ، وَصِحَّةُ الْإِيمَانِ إذَا أَطْلَقَا شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ خَصَّصَا وَقَالَا: إلَى الْإِنْسِ فَقَطْ، فَأَخْشَى عَلَيْهِمَا الْكُفْرَ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي بَيَّنَهُ الشَّارِعُ بِالشَّهَادَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا الْمُقَيَّدَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ مِنْ عَامِّيٍّ أَوْ فَقِيهٍ لَا عَنْ دَلِيلٍ بَلْ تَقْلِيدٍ مَحْضٍ فَيَكْفِيهِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِعَاصٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى إيجَابِ الْيَقِينِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا هِيَ شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّخْصِ عِلْمٌ بِأَدِلَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّقْلِيدِ فِيهَا كَفَاهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُ عَلَى جِهَةِ التَّقْلِيدِ جَازِمًا أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ فَإِنَّ التَّقْلِيدَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ الْمُطَابِقِ لَا لِمُوجَبٍ وَبَيْنَ قَبُولِ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ سَوَاءً أَكَانَ مَعَ الْجَزْمِ بِهِ أَمْ لَا.
فَهَذَا الثَّانِي كَافٍ هُنَا وَلَا يَكْفِي فِيمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ الْوَحْدَانِيَّةِ وَنَحْوِهَا، وَالْأَوَّلُ يَكْفِي لِأَنَّ إيمَانَ الْمُقَلِّدِ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَغْلَطُونَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ إيمَانَ الْمُقَلِّدِ لَا يَصِحُّ وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا فِي فَتْوَى.
وَقُلْت: إنَّ النَّاسَ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ: عُلْيَا وَهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ التَّفْصِيلِيِّ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ الِاسْتِدْلَالِ الْإِجْمَالِيِّ وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْعَوَامّ فَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ إيمَانِهِمْ.
وَوُسْطَى وَهُمْ أَهْلُ الْعَقِيدَةِ الْمُصَمِّمُونَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ بِكُفْرِهِمْ إلَّا أَبُو هَاشِمٍ، وَدُنْيَا وَهُمْ الْمُقَلِّدُونَ بِغَيْرِ تَصْمِيمٍ وَلَمْ يَقُلْ بِصِحَّةِ إيمَانِهِمْ إلَّا شُذُوذٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ عَالِمًا وَقَدْ وَصَلَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ وَلَهُ تَمَكُّنٌ مِنْ النَّظَرِ فِيهَا فَهَذَا الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِهَا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ قَطْعًا لِعِلْمِهِ بِأَدِلَّتِهَا وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَصْدِيقُهُ فِيهِ قَطْعًا، وَأَمَّا الْإِيمَانُ الْإِجْمَالِيُّ فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلابد مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا أَوْ يُكْتَفَى بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ الْعَالِمِ وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ فِي حَقِّ الْعَالِمِ، وَفَرْضُ ذَلِكَ عُسْرٌ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ مَتَى أَحَاطَ عِلْمُهُ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَوَجْهِ دَلَالَتِهَا حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ وَلَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُ الْعِلْمِ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ نَعَمْ لَوْ كَانَ الشَّخْصُ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى النَّظَرِ وَتَمَكُّنٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَالنَّظَرِ وَلَمْ يَفْعَلْ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا يَعْصِي بِذَلِكَ وَيَكْفِيهِ التَّقْلِيدُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقَلِّدْ وَلَكِنْ تَوَقَّفَ فَلَمْ يَعْتَقِدْ فِيهَا شَيْئًا مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ إدْرَاكِ ذَلِكَ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَيَتَرَجَّحُ أَيْضًا أَنَّهُ غَيْرُ مَأْثُومٍ لِعَدَمِ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا اعْتَقَدَ غَيْرَ الْحَقِّ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لِتَقْصِيرِهِ، وَالْإِقْدَامُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ خَطَأٌ بِخِلَافِ التَّوَقُّفِ فِيمَا لَا يَجِبُ كَمَا أَتَى فِي الْفُرُوعِ.
نَقُولُ: مَنْ أَقْدَمَ عَلَى فِعْلٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِحُكْمِهِ يَكُونُ مَأْثُومًا وَمَنْ تَوَقَّفَ عَنْهُ لَا يَكُونُ مَأْثُومًا.
فَصْلٌ:
قَالَ السَّائِلُ: وَهَلْ يَصِحُّ اسْتِدْلَالُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تعالى: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ}- الْآيَةَ وَبِسُورَةِ الْجِنِّ وقَوْله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا}.
قَالَ: وَالْجِنُّ يُسَمَّوْنَ نَاسًا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» وَأَنَّهُ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَحَكَمَ بَيْنَهُمْ وَأَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ كَمَا تَحَدَّى الْإِنْسَ بِهِ وَأَنَّهُ أَحَلَّ لَهُمْ كُلَّ طَعَامٍ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَحَرَّمَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ مِنْ أَجْلِهِمْ وَإِنَّ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ لَمْ يَكُونُوا إلَّا مِنْ الْإِنْسِ.
فَإِذَا ثَبَتَ إرْسَالُ مَنْ تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ فَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَوْلَى وَأَحْرَى وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إلَيْهِمْ، وَمَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَلِكَ مِمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ كَمَا خَفِيَتْ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ عَلَى آحَادِ الصَّحَابَةِ هَلْ يَنْتَهِضُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ.
أَقُولُ: أَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْجِنِّ {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} فَاسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ سُورَةُ الْجِنِّ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فَمُحْتَمَلٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ أَعَمُّ مِنْ الرِّسَالَةِ وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَلْ نَالَك مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ».
وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} مِنْ أَصَحِّ مَا يَكُونُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا} وَأَنَّ الْجِنَّ يُسَمَّوْنَ نَاسًا وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ لَكِنَّ تَسْمِيَةَ الْجِنِّ نَاسًا مُخْتَلِفٌ فِيهِ وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِقَاقِ النَّاسِ هَلْ هُوَ مِنْ النَّوَسِ وَهُوَ الْحَرَكَةُ أَوْ مِنْ الْإِينَاسِ بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ أَوْ مِنْ الْإِنْسِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَحْشَةِ وَمَنْ يَقُولُ بِتَسْمِيَتِهِمْ نَاسًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ بَلْ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَالْأَغْلَبُ خِلَافُهُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْعُرْفِ الْأَغْلَبِ أَوْجَبُ وَالْجَوْهَرِيُّ ذَكَرَ بَابَ أَنِسَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ذَلِكَ وَذَكَرَ بَابَ نَوَسَ وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مِنْ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ وَبِإِدْخَالِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ إلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّوَسِ وَقَالَ فِي بَابِ أَنِسَ إنَّ الْأُنَاسَ لُغَةٌ فِي النَّاسِ وَكَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ يَقُولُونَ إنَّ النَّاسَ أَصْلُهُ الْأُنَاسُ وَأَنَّهُ مِمَّا حُذِفَتْ فِيهِ الْهَمْزَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْكِي فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ.
وَيَتَخَلَّصُ مِنْ مَجْمُوعِ كَلَامِهِمْ أَنَّ النَّاسَ لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي الصُّورَةِ وَهُوَ فِي التَّقْدِيرِ لَفْظَانِ أَحَدُهُمَا أُنَاسٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أَنِسَ إمَّا بِمَعْنَى أَبْصَرَ وَإِمَّا ضِدُّ أَوْحَشَ وَعَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِنِّ لِأَنَّا لَا نُبْصِرُهُمْ وَلَا نَأْنَسُ بِهِمْ وَالثَّانِي مَأْخُوذٌ مِنْ نَوَسَ بِمَعْنَى الْحَرَكَةِ وَعَلَى هَذَا يُطْلَقُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَهُ فِي الْإِنْسِ أَغْلَبُ فَهُمَا لَفْظَانِ مُشْتَقَّانِ مِنْ أَصْلَيْنِ مُشْتَقٌّ مِنْهُمَا وَلَمَّا حَصَلَ الْحَذْفُ وَفِي أَحَدِ الْمُشْتَقَّيْنِ وَالْقَلْبُ فِي الْآخَرِ صَارَا عَلَى صُورَةِ لَفْظٍ وَاحِدٍ إذَا عَرَفْت هَذَا فَقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وَشَبَهُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ الْإِنْسِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِنِّ أَلْبَتَّةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ النَّوَسِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِمْ قَلِيلًا فَدُخُولُ الْجِنِّ فِي الْآيَةِ إمَّا مُمْتَنِعٌ وَإِمَّا قَلِيلٌ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ.
وَبِهَذَا بَانَ ضَعْفُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا لَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ أَيْضًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَمِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ادَّعَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ دُخُولَ الْجِنِّ فِي لَفْظِ النَّاسِ قَوْله تعالى: {فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وَتُجْعَلُ مِنْ بَيَانًا لِلنَّاسِ وَالْمُوَسْوِسِ فِي صُدُورِهِمْ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّهَا بَيَانٌ لِلْخَنَّاسِ.
وَاسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» صَحِيحٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَأَنَّهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمَوْعِظَةَ وَلَكِنْ إذَا انْضَمَّ إلَى غَيْرِهِ قَرُبَ.
وَقَوْلُهُ: إنَّهُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ إنْ أَرَادَ بِإِجَابَتِهِمْ فِي الزَّادِ وَالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ فَصَحِيحٌ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ مَعَ تَوَقُّفٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ وَحْدَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فِي دَعْوَى مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَلَا أَسْتَحْضِرُهَا، وَلَوْ اتَّفَقَ مِثْلُ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى عُمُومِ الرِّسَالَةِ إلَيْهِمْ.
وَقَدْ فَكَّرْت فِي حَدِيثِ «أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا وَكَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ وَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ لِيَسْرِقَ مِنْهَا، وَقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَدْفَعَنَّكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَعْرِفْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ»، وَلَمْ يَتَّفِقْ رَفْعُهُ حَتَّى نَعْلَمَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَخْبَرَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى بِإِمْسَاكِهِ وَرَفْعِهِ إلَيْهِ وَمُجَرَّدِ إمْسَاكِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ عَنْ السَّرِقَةِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ وَهُوَ جَائِزٌ سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ أَمْ لَا كَمَا يُدْفَعُ الصَّبِيُّ وَالْبَهِيمَةُ.
فَلِهَذَا لَمْ أَسْتَدِلَّ بِهَا.
وَلَوْ اتَّفَقَ رَفْعُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُكْمُهُ عَلَيْهِ لَمْ أَتَوَقَّفْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ.
وَلَيْسَ لِقَائِلٍ ذَلِكَ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ عَلَى مُقْتَضَى اعْتِقَادِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ لَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ قَبْلَ الْحُكْمِ كَحُكْمِ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْحَنَفِيِّ وَعَكْسِهِ لِأَنَّ تِلْكَ أُمُورٌ مَظْنُونَةٌ فَالشَّافِعِيُّ يَحْكُمُ عَلَى الْحَنَفِيِّ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ وَإِنْ كَانَ الْحَنَفِيُّ مُكَلَّفًا قَبْلَ الْحُكْمِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ.
وَأَمَّا هُنَا فَالْأَمْرُ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ وَلَا يَحْكُمُ عَلَى أَحَدٍ إلَّا بِحُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مَقْطُوعٌ بِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ وَبَعْدَهُ فَلَوْ رُفِعَ إلَى نَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ لَيْسَ مِنْ أُمَّتِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْهُ إلَيْهِ وَأَرْسَلَ إلَيْهِ غَيْرَهُ مِمَّنْ حُكْمُ ذَلِكَ الْفَرْعِ الَّذِي رُفِعَ إلَيْهِ فِي شَرْعِهِ يُخَالِفُ حُكْمَهُ فِي شَرْعِ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْمَرْفُوعِ إلَيْهِ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بَلْ نَقُولُ: هَذَا حُكْمُ مَا فَعَلَ فَلَوْ حَكَمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ النَّبِيُّ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ إمَّا بِرِسَالَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ إلَيْهِ وَإِمَّا بِمُوَافَقَتِهِ لِشَرْعِ نَبِيِّهِ وَأَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِالْحُكْمِ بِهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْكُمْ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى لِنَسْخِ شَرِيعَتِهِ لِسَائِرِ الشَّرَائِعِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيعَتُهُ وَأَنَّ حُكْمَهَا لَازِمٌ لَهُمْ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ كَمَا تَحَدَّى الْإِنْسَ بِهِ قَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ هَذَا الْقَائِلِ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} هَذَا الِاسْتِدْلَال عِنْدِي لَيْسَ بِالْقَوِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ تَحَدِّيَ الْإِنْسِ فَقَطْ وَالْمُبَالَغَةَ فِي تَعْجِيزِهِمْ بِعَجْزِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُمْ وَأَقْدَرُ وَأَذْكَى، وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهُ أَحَلَّ لَهُمْ كُلَّ طَعَامٍ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ فَإِذَا أَحَلَّ لَهُمْ فَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضَ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ لَكِنَّ الَّذِي أَعْرِفُهُ فِي الصَّحِيحِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ قَالَ: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ».
وَصِيغَتُهُ لَكُمْ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الْإِحْلَالِ فَقَدْ يَكُونُ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ بِدُعَائِهِ بَعْدَ ضِيقِ، الِاسْتِدْلَالِ بِتَحْرِيمِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ وَالْعَظْمِ مِنْ أَجْلِهِمْ لَيْسَ بِجَيِّدٍ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ مُتَعَلِّقٌ بِنَا لَا بِهِمْ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ لَمْ يَكُونُوا إلَّا مِنْ الْإِنْسِ لَا أَرْتَضِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْسُنُ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ لَمْ يَكُونُوا إلَّا مِنْ الْإِنْسِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ.
وَالْخِلَافُ الْمُشَارُ إلَيْهِ هُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ الْمُفَسَّرِ إنَّ الرُّسُلَ إلَى الْجِنِّ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} فَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمَنْ تَبِعَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ.
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ إلَّا مِنْ الْإِنْسِ وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ يَطُولُ وَلَيْسَ هَذَا مَحِلَّهُ.
وَلَمْ يَقُلْ الضَّحَّاكُ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهُ بِاسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي الْمِلَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ خَاصَّةً وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُرْسَلُ إلَيْهِمْ وَإِلَى غَيْرِهِمْ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ عَقِيلُ بْنُ عَطِيَّةَ الْقُضَاعِيُّ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْفَصْلِ وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْعُلَمَاءُ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ كَوْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إلَى الثَّقَلَيْنِ، وَرُبَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي صُدُورِ تَوَالِيفِهِمْ.
قُلْت: وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَادِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْعِيسَوِيَّةِ وَقَدْ عَلِمْنَا ضَرُورَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّعَى كَوْنَهُ مَبْعُوثًا إلَى الثَّقَلَيْنِ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا فِي الشَّامِلِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْعِيسَوِيَّةِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا دَلِيلُكُمْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إلَى كَافَّةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟ قُلْنَا: مَنْ اعْتَرَفَ بِنُبُوَّتِهِ وَأَقَرَّ بِوُجُوبِ صِدْقِ لَهْجَتِهِ وَاسْتَسْلَمَ لِقَضِيَّةِ مُعْجِزَتِهِ فَثَبَتَ مَا تَرُومُهُ مِنْ بَعْثَتِهِ إلَى الْكَافَّةِ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ، وَذَلِكَ أَنَّا نَعْلَمُ ضَرُورَةَ وَبَدِيهَةَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَعَلَّقَ دَعْوَتَهُ لِمَنْ عَلَى بَسِيطِ الْأَرْضِ وَلَا يُخَصِّصُهَا بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ وَهَذَا مِمَّا نُقِلَ تَوَاتُرًا مِنْهُ كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
وَأَبْطَالُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي ذَلِكَ رَادًّا عَلَى الْعِيسَوِيَّةِ لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَى نَقْلِ بَقِيَّةِ كَلَامِهِ هُنَا.
وَقَوْلُ ذَلِكَ الْمُسْتَدِلِّ فِيمَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّا قَدْ حَمَلْنَا كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَحْمَلٍ صَحِيحٍ هُوَ أَنَّهُ أَرَادَ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ نَقُولَ: إنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورُ فِي لَيْلَةِ الْجِنِّ أَتَرَى يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ وَسُورَةِ الْجِنِّ مَا فِيهِمَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ خَاصَّةً لَا حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ حَتَّى يُشَبَّهَ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي خَفِيَتْ عَنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ فِيهِ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَرِيحًا بَلْ هُوَ فِي غَيْرِهِ أَظْهَرُ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ لَا تُطْلَقَ هَذِهِ الْعِبَارَةُ هَاهُنَا فَإِنَّهُ لَيْسَ مَحِلَّهَا وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَقَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ يَنْهَضُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ؟ جَوَابُهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ بَعْضَهُ يَنْهَضُ وَبَعْضَهُ لَا يَنْهَضُ وَقَدْ نَهَضَتْ الْأَدِلَّةُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ عَلَى ذَلِكَ.
فَصْلٌ:
قَالَ السَّائِلُ: فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي قوله: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} يَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْله تعالى: {إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} وَقوله: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} وَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَبِتَقْدِيرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ دَالٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَمُطْلَقُ الْإِيمَانِ أَعَمُّ مِنْ الْإِيمَانِ بِكَوْنِهِ رَسُولًا إلَيْهِمْ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَعَمِّ ثُبُوتُ الْأَخَصِّ بَلْ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ عَلَيْنَا بِمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
أَقُولُ: تَكَلَّمَ السَّائِلُ فِي الضَّمِيرِ فِي {وَآمِنُوا بِهِ} وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِي قوله: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَوْضَحُ، فَإِنْ كَانَ يَقُولُ: إنَّ الدَّاعِيَ هُوَ الْقُرْآنُ فَيُبْعِدُهُ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: أَجِيبُوهُ لِتَقَدُّمِهِ فِي قَوْلِهِمْ: {كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ} فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ مُظْهَرًا وَمُضْمَرًا فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الْإِجَابَةُ لَقِيلَ: أَجِيبُوهُ وَوَضْعُ الظَّاهِرِ فِي مَوْضِعِ الْمُضْمَرِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى.
الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ تَثْبُتْ تَسْمِيَتُهُ دَاعِيًا فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَتْ تَسْمِيَتُهُ دَاعِيًا فِي مَوَاضِعَ: كَقَوْلِهِ تعالى: {أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} وَلِحَدِيثٍ طَوِيلٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ، وَفِيهِ فَقَالُوا: إنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنْ الْمَأْدُبَةِ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهُهَا، وَفِيهِ قَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِمْ: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي ثَبَتَتْ تَسْمِيَتُهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَأَيْضًا فِي سُورَةِ الْجِنِّ {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الدُّعَاءُ بِمَعْنًى آخَرَ.